يجلس مجموعة من الشباب الذين تبدو عليهم ملامح الفحولة، وفي المقدمة زميل لهم يحتسي مشروبا ما، يضع الزجاجة أمامه، فيأخذها الذي في خلفية المشهد ليضعها إلى جواره، فيتضايق صاحبنا الذي شرب، ليمسك بالزجاجة من جديد ثم يضعها أمامه ليخرج لك الصوت الإعلاني يبشرك بأنه "بيريل تتحط في أي حتة".. ثم بحمشنة لا تعرف لها سببا: "عاوز تسترجل اشرب بيريل"!.. ده على اعتبار إن دي خفة دم وإن المفروض حضرتك تكون دلوقتي مرمي على الأرض من فرط الكركرة والسخسخة!
لكن وبما أن جزءا كبيرا من الشباب المصري "الفانكي" يرتدي بنطلونات جينز ضيقة رديئة الخامة، وسطها -ولا مؤاخذة- ساقط لزوم "الروشنة" و"بي كول مان"، فلا بد أن القطاع الأكبر من هؤلاء المساكين يعاني من خلل في "الرجولة" -أزعل منك لو مش عارف تأثير مثل هذه البنطلونات على الرجولة- ولا بد أن كل واحد من هؤلاء عندما يرى إعلان "بيريل التي تجلب الاسترجال"، يقبض في زمارة "السيد الوالد" طالبا منه مضاعفة المصروف اليومي حتى يستطيع أن يدلق في جوفه كل يوم 27 لتر بيريل استرجال؛ لأنه "وهو يرضيك يا حاج يعني أتحرم من مشروب الاسترجال، ولما ضابط يضربني على قفايا في كمين ما أقولش أي، أو زميل يعطيني كتف غير قانوني في طابور العيش ما أضربوش في وشه، ولا ليلة الدخلة.. هه.. ليلة الدخلة.. يرضيك إني أظهر ليلتها وكأني مقصر في "بيريل الاسترجال"؟!"
حاجة ربنا يكفيك. في كل بلاد الدنيا الرجولة لا تأتي من مشروب الشعير. وإنما يتعلمها الأولاد في البيوت والمدارس. في كل بلاد الدنيا من يريد أن يسترجل ينزل من بيتهم يشتغل ويتعب ويعرق ويروح بيته آخر النهار يشرب كوب من الماء وليس مسحوق الاسترجال بطعم الشعير، في كل بلاد الدنيا الرجولة أدب مش شرب بيريل، في كل بلاد الدنيا -الأولى والمحترمة والمتقدمة فقط- لا تمييز بين رجل وامرأة إلا بالعمل والجد والتفوق وليس بشوية شعير مضروبين في الخلاط وعليهم كام رغوة، يشربها شباب "مأنتخ" يجلس أمام التليفزيون وكرشه من فرط الرحرحة والأنتخة يكاد يغطي على الشاشة، على اعتبار أن هكذا تكون الرجولة.. طب والبنات يعني مالهومش نفس يشربوا بيريل؟ وهل لو تشجعت واحدة منهن وفعلتها سيظهر لها شنب وتنبت لها عضلات ويتم اختيارها للعمل كبودي جارد لأحد الوزراء -طب والله فرصة شغل لا تعوض- وهل يمكن أن يصدر مجلس الشعب تشريعا جديدا يجرم فيه شرب السيدات للبيريل على أن يصبح الفيروز -بطعم الأناناس فقط وليس بطعم التفاح الرجولي- هو المشروب البناتي الأول في مصر على أن تصاحبه حملة إعلانية موازية تؤكد بأنه "عاوزة "تتبنتي" اشربي فيروز أناناس"؟!
مدهش جدا أمر السادة صانعي مثل هذه الإعلانات "التمييزية" التي تؤصل للتمييز والطائفية بين المصريين وكأننا في حاجة لذلك رغم أنه مفيش أكثر منهما -التمييز والطائفية طبعا- رطرطة في مصر.
دعك من الثنائيات التعصبية المعروفة "مسلم ومسيحي، شقراء وقمحية، أبيض وأسمر، أهلي وزمالك"، وتعالَ لأعطيك آخر موضة في هذه السكة لا يقل طعمها المر عن منقوع بيريل بالشعير.
مكتبة متوسطة الحجم والإمكانيات في شارع واصل بين شارعي الهرم وفيصل الشهيرين في محافظة الجيزة، صاحبها رجل كبير السن نسبيا، ويبدو أنه يحتاج إلى من يسنده في العمل، فعلَّق على الواجهة إعلانا يطلب فيه آنسة، لم يضع أي شروط، لا "على خلق"، لا "متعلمة"، لا "تقبل العمل تحت ضغط"، فقط "آنسة محجبة"!، تقول إن الرجل يريد فتاة تعمل في هدوء ولهذا أرادها محجبة؛ حتى لا تجلب له كل شباب المنطقة في المكتبة، والله احتمال وارد، بس هو يعني كونها محجبة يمنعها هذا من جلب شباب المنطقة والمناطق المجاورة لو كانت تخفي وراء حجابها ما لا يسر الناظرين؟.. وأنت دخلت جوه نيتها ليه يا عم؟ طب ما أنت برضه دخلت جوه نية أي بنت غير محجبة تريد أن تشتغل شغلانة شريفة وافترضت أنها ستجلب العار للحي بأكلمه إذا وقفت في المكتبة تبيع الأقلام والأساتيك وتصور البطاقات الشخصية للزبائن؟! -خد بالك لم أتطرق لفكرة أن تعمل فتاة مسيحية في مكتبة يملكها مسلم على أساس أن هذا أمر قد يعتبره البعض خروجا على الدين..
لا أخفي استفزازي من الإعلانين.. إعلان بيريل وإعلان المكتبة.. كلاهما يؤصل للتمييز والفصل بين الناس "رجال / نساء - نساء / نساء" على أسس غريبة ما أنزل الله بها من سلطان، كل هذا وجميعنا يحفظ ذلك
الحديث النبوي الشريف: "يا إيها الناس ألا إن ربكم واحد وأن أباكم واحد , ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على
عربي ولا لأحد على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى".. فقط التقوى وليس بمشروب معين أو زي محدد.
عجيب جدا أمرنا، نشكو عذاب الحكومات المتوالية وما تمارسه علينا من فنون في التمييز والطائفية والعنصرية، رغم أن الرجال فينا هم وحدهم من يشربون البيريل ولا يعمل في مكتباتنا سوى المحجبات فقط.. ولم أعد أعرف هل نحن السبب في هذا أم الحكومات هي المسئولة أم أن العيب -ولا مؤاخذة- في رجولة بيريل!